الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إلى الذين يحادون مفاتح الغيب باسم العلم الحديث
.تمهيد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..لا نجد مفتاحا لمحاضرتنا هذه؛ نفتح به ما قد يكون أغلق علينا، وعلى قلوب ليست معنا، عليها أقفالها خيرا من آية المفاتيح... نعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، وهذه الآية العظيمة، وإن كان بعضها فقط سيكون موضوع المحاضرة، إلا أننا ذكرناها كاملة لنتعرض لمعنى سريع لكلماتها، قبل أن نأخذ صدرها الذي سيكون ينبعنا الدفاق لمحاضرتنا، إن شاء الله تعالى...فعن الآية جملة نبدأ فيها بإيضاح كلمة (الغيب)؛ فهي بمعناها العام تعطينا معنى ذا قسمين: غيب يختص بالدنيا، وغيب يختص بالآخرة؛ فغيب الدنيا يمكن أن يظهر منه ما تحيط بصورته حواس الإنسان، وغيب الآخرة لا يظهر ولا يحاط منه شيء إلا بعد الموت، والآية التي قرأناها الآن من النوع الأول، من غيب الدنيا الذي يجوز أن يظهر ويدرك، ولمجرد أن نقرأها نجد كل صورها المسماة فيها جُسِّم من نوعه لنا، وأحاطت به أحاسيسنا {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}.فالمفتاح: اسم الآلة يغلق به على شيء يحتاج إليه، والحاجة تقتضي أن يفتح به بين حين وآخر، وإن كانت المفاتيح في الآية معنوية، إلا أنها أعطت معنى الفتح على غيب ليس أبديّ الإغلاق، وإنما يفتح سبحانه علينا منه وبالقدر الذي يجعله قياما لوجودنا في دنياه؛ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ}، فخزائنه غيب وما ينزل منه هو الذي يبدو لنا، هذا هو غيب الدنيا الجائز فيه الظهور، وبقية الآية دليل على ذلك، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فقد أطلعنا على بعض ما في البر كالزرع - مثلا - حُزْناه، وفي البحر ضمنا سمك اصطدناه، وما تسقط من ورقة وتبدل بأخرى كذلك ولا حبة في ظلمات الأرض بعد أن أخفيت ثم بالنبت شقت، ولا رطب ولا يابس نرى منه فعلا ما نرى، كل ذلك في كتاب محفوظ مبين.فهو سبحانه بعد أن نشر هذه الأمثلة لفها بعد ذلك في قوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِس}، فمن الرطب واليابس تتكون الدنيا، ومنهما تفتح علينا مقومات بقائنا، من كل أمر عجيب أبصرناه، وما لم نبصره لا بد أكثر وأعجب؛ {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ}.أما غيب الآخرة فليس منه في دنيانا ما نبصر، وإنما كله فيما لا نبصر، والرد على القول في أن بعض الرسل رأى الجنة والنار وهو في الدنيا، فمع الخلاف في أنهم رأوا ذلك حقيقة أو مناما، أو بوصف الوحي فإن خصوصيات الرسل - على ترجيح الرؤية البصرية - لا تقوم عليها بالضرورة قاعدة لبقية الناس، {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، وأصحاب الآراء الأخرى لهم وجه مقبول فيما قالوا، عندما ذكروا قول النبي صلى الله عليه سلم عن الجنة بأن «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، أوضحوا أن كلمات (عين) و: (أذن) و: (قلب) تشمل عين النبي وأذنه وقلبه صلى الله عليه وسلم، خاصة قوله: «ولا خطر على قلب بشر»، فهو ضمن البشر، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فلم يستثن نفسه من كلمات الحديث بشيء؛ فيكون ذلك قيل ليبلغه وما أبصره، فهذا إيضاح لا تنكر وجاهته.وسيقال أيضا: إن الآيات القرآنية صورت لنا الكثير عن غيب الآخرة، كاللحم والفاكهة، والحور العين والمساكن الطيبة، وأنهار اللبن والخمر بلا غول والعسل المصفى، والنخل والرمان، هذا مع الأحاديث التي وصفت قصور الجنة بأنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن تراب الجنة مسك.. إلى غير ذلك.فأقول إنه الغيب المعلن اسمه المعروف، وليس عن رسمه المجهول، للترغيب في العمل الصالح المؤدى لنعيم ما بعد الموت، وليس الغيب الذي إذا ظهر أحاطته الحواس، على نحو ما أظهره الله في الدنيا، فهذه الأسماء محبوبة عند الإنسان تذكرة بالأطايب التي تهفو إليها نفسه، حيث ذاق لذاتها في الدنيا بحواسه، أما واقعها في الجنة من حجم وطعم، ولون ورائحة ومناظر بهيجة، فغيب غير ما عرف في الدنيا، لا يدرك إلا عند الولوج من باب الجنة، فلا ربط بين طيبات الدنيا وطيبات الآخرة إلا بالأسماء، وأما المسميات فالصورة منقطعة تماما، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، والدنيا كلها أرض وسموات والتبديل شامل لكليهما في الآية، حتى الإنسان سيتبدل إلى كائن يتحمل هيبة الله عندما يتجلى عليه في الجنة، وفي الدنيا خرت الجبال دكا لما تجلى عليها ببعض هيبته {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً}، وما يقال عن الصلة اسميا وانقطاعها حققيا بين طيبي الدنيا والآخرة، يقال عن سيئهما، وليس أسوأ من النار فيهما، لكن نار الدنيا يمكن أن تحرق وأن تنفع، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً} تخويفا وتفعا، ويمكن أن يتفادى شرها إذا اشتعلت بالابتعاد عنها أو بإطفائها، ولكن نار الآخرة استحال نفعها واستحال إطفاؤها، فالصورة الحرارية بينهما لا تقدر بفروق؛ لهول ما ذكر عنها في الكتاب والسنة من مجرد كلام مرعب لم يلمس في دنيانا واقعه {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}، ونار الدنيا قد تبقي وقد تذر، وإنما الذكر الكلامي عنها لترويع العاصي من نار أظهره الله على شيء منها في الدنيا {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً}. |